الصلاحية القضائية على شبكات التواصل الإجتماعي
بقلم المحامي الدكتور شربل وجدي القارح |
ان شبكات التواصل الإجتماعي، كونها جزءاً لا يتجزأ من شبكة الإنترنت، تجمع بطبيعتها المتطايرة المعيار الدولي، كونها تقدم خدمة متجاوزة للبلدان وللجنسيات على المستوى العالمي. ان هذا الأمر يطرح اشكالية على مستوى القانون الصالح التطبيق، اضافة الى الصلاحية الدولية والمكانية للقضاء. والجديد الذي انتجته شبكات التواصل في مواد الصلاحية القضائية، نذكر مدى امكانية القرارات الصادرة عن القضاء الداخلي ان تحظى بالتنفيذ من قبل شبكات التواصل، خاصة مع وجود بنود الصلاحية ضمن شروط استعمال شبكات التواصل.
اولاً: بنود الصلاحية
في القانون الدولي الخاص، يوجد قاعدة قانونية جداً هامة ومفادها: ان الحرية متروكة لإرادة الفرقاء في تعيين القانون الصالح التطبيق. وقد تم تكريس هذه القاعدة في معاهدة روما لعام 1980[1]. في الواقع، ان شروط استعمال شبكات التواصل تحدد صراحة القانون الصالح التطبيق وغالباً ما يكون القانون الأميركي او قانون احدى الولايات الأميركية؛ ويبقى للمستعمل حرية الموافقة او الرفض، اذ لا مجال للتفاوض او للإضافة في عقود الإذعان. فهل تكون هنا ارادة الفرقاء حرّة في تحديد القانون المختص؟
اذا اخذنا شبكة فايسبوك مثلاً، فهي تتخذ في شروط استعمالها، قانون ولاية ديلاوار كصلاحية قانونية، اما شبكة ماي سبايس، فتتخذ قانون ولاية نيويورك. في حين، تنص المادة الخامسة من معاهدة روما على ان خيار الفرقاء للقانون الصالح التطبيق، لا يمكن ان يكون من شأنه حرمان المستهلك من الحماية التي يقرها له قانون بلده. بالنسبة للأستاذة كومي، ان هذا البند لا يطبق الا في حالات عقود الإستهلاك فقط، وان عقود استعمال شبكات التواصل، هي من دون ادنى شك عقود استهلاك، طالما كان استعمال المستهلك لها بعيداً عن الدائرة المهنية[2].
في الواقع، ان اول نقطة استفهام في النظام، تتأتى من البنود التعاقدية الخاصة بشبكة فايسبوك. اذ تنص هذه البنود بأن القانون الصالح التطبيق هو قانون ولاية ديلاوار. وتضيف شروط استعمال شبكة فايسبوك ان قانون ولاية ديلاوار يكون صالحاً بغض النظر عن اي تنازع للقوانين:
« By visiting or using the Site and/or the Service, you agree that the laws of the State of Delaware, without regard to principles of conflict of laws, will govern these Terms of Use and any dispute of any sort that might arise between you and the Company or any of our affiliates »
بالنسبة للأستاذة بوغوز، ان شروط استعمال شبكات التواصل الإجتماعي تشكّل عقداً بين المستعمل وشبكة التواصل؛ وخلافاً للقانون الأنكلوساكسوني، لا يمكن لأي عقد في فرنسا، ان يخالف قاعدة تتعلق بالنظام العام. واذا عرض نزاع على القضاء الفرنسي، يتضمن بنوداً تعاقدية خاصة مخالفة للنظام العام، سيعتبرها القضاء باطلة وكأنها لم تكن، ليحتفظ بالتالي بإختصاص القانون الفرنسي الساري المفعول[3].
مصوّر متوافر عبر الشبكة[4]
في المقابل، يرى الكثير من الفقهاء، ان مبدأ حرية الفرقاء في تحديد القانون الصالح على شبكة التواصل، لا يجد تطبيقاً له، وان قانون محل اقامة المستعمل هو الواجب التطبيق، خاصة عندما يكون هذا القانون حمائي موضوع من اجل حماية المستهلك ومصالحه. فضلاً عن ان بنود الصلاحية الموضوعة من قبل شبكات التواصل الإجتماعي هي بنوداً تعسفية، سيما لكونها تخلق اختلالاً نوعياً في التوازن بين حقوق وموجبات فرقاء العقد، وتعتبر بالتالي هذه البنود كأنها لم تكتب، وخاصة في التعاقد الذي يجمع بين ممتهن ومستهلك[5]. اما البعض الآخر، فيقترح، من اجل اضفاء الشرعية على بنود الصلاحية، ان يصار الى ارسال بريد الكتروني يؤكد على وجودها. اذ ان مجرد توافرها على شاشة الحاسوب يبقى غير كافياً[6].
بالنسبة لشبكة تويتر، فتتضمن شروطها بند الصلاحية للقانون الكاليفورني، حيث تنص على ما يلي:
« These Terms and any action related thereto will be governed by the laws of the State of California without regard to or application of its conflict of law provisions or your state or country of residence ».
يبدو اذاً ان القانون الصالح، حتى على المستعمل العربي او الأوروبي لشبكة تويتر، هو القانون الكاليفورني، مما يطرح العديد من الشكوك حول هذا الإختصاص الإلزامي المفروض من قبل شبكة التواصل. وهل ان المستعمل، بمجرد استعماله خدمة مجانية على شبكة التواصل، يكون قد اعطى بالمقابل للشبكة الحق في استعمال بياناته الشخصية وتنازله عن الصلاحية القانونية في آن؟
ان الإرشاد الأوروبي رقم 13/93، تاريخ 5 نيسان 1993، ينص صراحة على ان تأخذ دول الأعضاء كافة الإجراءات المناسبة، من اجل الحؤول دون حرمان المستهلك من الحماية القانونية المعطاة له في الإرشاد الأوروبي، بمجرد اختياره لقانون مختص لإحدى دول الأعضاء، غير قانون بلده. لكننا امام اختصاص لقانون اميركي حيث النظام القانوني مغاير بأكمله.
وكانت المحكمة الأوروبية قد اعتبرت في قرار لها، عرف بإسم « Océano Grupo »، ان بند تحديد القانون المختص، الذي من شأنه ان يثقل كاهل المستهلك، باللجوء الى قضاء بعيد وحصري، هو بنداً تعسفياً[7]. وتكون بالتالي كافة بنود الصلاحية الموجودة في شروط استعمال شبكات التواصل الإجتماعي، انما بنوداً تعسفيةً، معتبرة غير مكتوبة من منظار قانوني بحت، خاصة في حالات تطبيقها على مستعملين، ذات محل اقامة خارج الولايات المتحدة الأميركية. عملياً، ان شبكات التواصل الإجتماعي، هي بمنأى عن اية مسؤولية، كونها لا تتجاوب الا للقرارات الصادرة عن القضاء الأميركي، كما انها اعلنت مراراً في العديد من الدعاوى، انها لا تلتزم بأي قرار قضائي خارجي. اذ ان القرارات الخارجية الصادرة تطبيقاً لقوانين غير اميركية، يكون عليها ان تدخل في النظام العام الأميركي، من اجل الإستحصال على الصيغة التنفيذية الأميركية، وهو امر صعب في اغلب الأحيان، خاصة في مسائل تمس بالحريات الفردية على شبكات التواصل.
ثانياً:تنازع القوانين والصلاحية القضائية
ان امكانية ولوج المحتوى الرقمي على شبكات التواصل الإجتماعي، من اي مكان في العالم، يطرح اشكاليات جمة، متمثلة بإختصاص عدة قوانين وبالتالي بتنازع القوانين. بالنسبة للأستاذة سيدايان، المتخصصة في قضايا التكنولوجيا الحديثة، ان عناصر الربط التقليدية على شبكة الإنترنت، تؤدي الى عقد اختصاص مطلق لكافة القوانين الخارجية، وهو امر غير معقول. لذا، لا بد من تواجد قواعد قانونية جديدة تأخذ بعين الإعتبار الطبيعة الخاصة لشبكة الإنترنت. اذ ان واقعة توافر الموقع الإلكتروني، انطلاقاً من بلد القاضي الناظر في النزاع، لا يعتبر عنصراً كافياً بحدّ ذاته، كما يشكّل تعدياً على السيادة الوطنية للبلدان الأخرى[8].
في محاولة لحلّ معضلة تنازع القوانين على الشبكة، يقترح البعض تطبيق معيار الجمهور المستهدف[9]، في حين يقرّ عميد كلية الحقوق في جامعة شيكاغو كينت، البروفسور هنري بينيت، انه اذا كان على الموقع الإلكتروني ان يحترم قوانين كافة بلدان العالم، عندها يصار الى تطبيق قانون البلد الأشد. في المقابل، اذا اعتبر القانون الصالح هو قانون البلد حيث محل اقامة مشغّل الموقع، عندها لا تكون القيم الداخلية للبلدان ممسوسة، لكن يخشى تَكَوُّنْ جنات « سيبرقانونية » حيث كل شيء مباح[10].
مصوّر متوافر عبر الشبكة[11]
في نزاع قضائي بين كل من مواطنة فرنسية وشركة غوغل فرنسا، طلبت المدعية اعتبار قانون حماية البيانات الشخصية الفرنسي بمثابة قانون الزامي، اي قانون يستوجب التطبيق المباشر دون المرور بقواعد تنازع القوانين، بالرغم من وجود شركة غوغل الأم في ولاية كاليفورنيا الأميركية التي لا تخضع للقوانين الفرنسية. واعتبرت بالتالي محكمة الدرجة الأولى في باريس في قرار لها تاريخ 14 نيسان 2008، ان تطبيق القانون الفرنسي من دون منازعة ممكنة، من اجل حماية النظام الإجتماعي الإقتصادي لرعاياها الدولية، كما واعتبار واقعة عدم احترام بعض احكام القانون الفرنسي التي تؤدي الى عقوبات جزائية، لا يشكّلان بحدّ ذاتهما اثباتاً كافياً من اجل تطبيق حكمي للقانون الفرنسي على النزاع الراهن. وخلصت بأن شركة غوغل لم تخالف القانون الكاليفورني كون عملية ارشفة البيانات الشخصية للمستعملين تتم في ولاية كاليفورنيا، مطبقة قانون مكان العمل المُفَعِّل « Le fait générateur » (محل ارشفة البيانات) اي القانون الكاليفورني على النزاع[12].
ان هذا التطبيق من قبل محكمة البداية الفرنسية، يبدو صعباً في بعض الأحيان، حيث يستحيل على المستعمل معرفة الطريق التي ستسلكها البيانات على شبكة الإنترنت، وبالتالي مكان حفظها الأخير، وماذا سيكون الحلّ في حال تم حفظ البيانات في عدة امكنة ذات قوانين حمائية مختلفة في الوقت عينه؟
اما في النزاعات الجزائية على شبكات التواصل الإجتماعي، كنزاعات االتشهير والذم والقدح، فيصار الى تطبيق مبادئ القانون العام من اجل تحديد القانون المختص، كمكان وقوع الجرم، الذي اعتبر مجرد امكانية رؤية الموقع من مكان القاضي عاقداً لإختصاصه المكاني. ونشير الى وجود العديد من الإعتراضات على بنود الصلاحية لشبكات التواصل ذات الإختصاص الإلزامي، نذكر من بينها معارضة مجموعة ال 29 الأوروبية، مجموعة اللجنة الوطنية للمعلوماتية والحريات في اوروبا (CNIL) حيث اعتبرت الزامية تطبيق القانون الأوروبي، على عملية معالجة البيانات ذات الطابع الشخصي من قبل شبكات التواصل، وان لم تكن مراكزها الرئيسية في اوروبا[13].
مصوّر متوافر عبر الشبكة[14]
ويقوم اليوم الإتحاد الأوروبي ولجنة المعلوماتية والحريات بالتحاور مع شبكات التواصل من اجل التوصل الى اعلانات او شرعات، لكن ذلك لا يعدو عن كونه قانوناً اتفاقياً « Soft Law »، بحيث لا يلزم سوى موقعيه كشبكة لينكدإين، في حين يبقى كبار اللاعبين خارج اللعبة كفايسبوك وتويتر، التي تفضل عدم الإلتزام، وان رضائياً، لغاية تاريخه[15].
في الواقع، ان الجرائم المدنية وباقي الأعمال القانونية تكون خاضعة اما لقانون مكان وقوع الفعل (Lex loci delicti)، واما لقانون مكان وقوع الضرر (Lex loci damni). فإذا اخذنا شبكة فايسبوك مثلاً، يكون مكان وقوع الفعل او العامل المُفعِّل (Le fait générateur) هو مكان مركز شركة فايسبوك في ولاية كاليفورنيا، اما مكان وقوع الضرر فهو محل وجود مستعمل الشبكة. وكانت محكمة التمييز الفرنسية قد ارست اجتهاداً مستقراً مفاده انه في الدعاوى المطالبة بالتعويض والعطل والضرر، يكون الإختصاص لقانون مكان وقوع الضرر، او لقانون مكان العامل المُفعِّل للضرر[16].
في الدعاوى الجزائية اللبنانية المتعلقة بشبكات التواصل، يكون معيار الأراضي اللبنانية عنصر الربط الأساسي من اجل عقد اختصاص القضاء الجزائي اللبناني. وكان القضاء الفرنسي قد لجأ الى مفهوم واسع ايضاً للأراضي الفرنسية، معتبراً الجريمة واقعة على الأراضي الفرنسية، بمجرد امكانية الولوج الى المحتوى الضار على شبكة الإنترنت من الأراضي الفرنسية، وبالتالي مقرراً اعتبار ذلك معيار ربط كافي من اجل عقد اختصاص القانون الفرنسي[17].
[1] - Convention sur la loi applicable aux obligations contractuelles, ouverte à la signature à Rome le 19 juin 1980, In JOCE C 27 du 26 janvier 1998.
[2]- COUMET Catherine, Données Personnelles & Réseaux Sociaux, Mémoire Pour L'obtention D'un Master Recherche « Droit Des Médias Et Des Télécommunications », Sous La Direction De M. Le Professeur Jean Frayssinet, Institut De Recherche Et D’études En Droit De L’information Et De La Communication, Faculté De Droit Et De Science Politique d’Aix-Marseille, Université Paul Cézanne U III, Aix-En-Provence, 2008-2009, Disponible à partir du site: http://junon.univ-cezanne.fr/u3iredic/wp-content/rapports-memoires/internet/memoire-coumet.pdf, P. 34.
[3]- BOGUSZ Charlotte, Le régime juridique applicable aux réseaux sociaux, Mémoire présenté et soutenu en Septembre 2009, Sous la Direction de Monsieur le Professeur Georges Chatillon, Droit Administration et Secteurs Publics, Master II Professionnel – Droit De L’internet Public, Disponible à partir du Site : http://www.univ-paris1.fr/fileadmin/diplome_droit_internet/08-09_Bogusz_memoire.pdf, P. 28.
[4] - http://www.google.com.lb/imgres?biw=1309&bih=704&tbm=isch&tbnid=hKdzgcZJkfShmM:&imgrefurl=http://www.itespresso.fr/confidentialite-affaire-facebook-sponsored-stories-touche-fin-61263.html&docid=LtwB0uOB9eo4ZM&imgurl=http://www.itespresso.fr/wp-content/uploads/2012/01/tribunal-justice-proc%2525C3%2525A8s-%2525C2%2525A9-treenabeena-Fotolia.com_.jpg&w=3872&h=2592&ei=q55SUtalO8Ly7Aa5u4DwCg&zoom=1&ved=1t:3588,r:14,s:0,i:117&iact=rc&page=2&tbnh=185&tbnw=274&start=14&ndsp=19&tx=51&ty=80.
[5]- COUMET Catherine, Op. Cit., P. 37.
[6]- Ibidem.
[7]- CJUE, 27 juin 2000, aff. C-240/98 à aff. C-244/98.
[8]- SEDAILLAN V., Commentaire de la décision TGI 22 mai 2000, Disponible sur juriscom.net.
[9]- HAMON Arnaud, Une approche de la liberté d'expression sur internet, DEA de droits de l'homme et libertés publiques, Sous la responsabilité de Madame Danièle Lochak, Sous la direction de Madame Sylvia Laussinotte, Université Paris X Nanterre, Année universitaire 1999/2000, P. 44.
[10]- PERRIT Jr H., Cyber law journal, New-York Times, 11 août 2000.
[11] - http://www.google.com.lb/imgres?start=254&biw=1309&bih=704&tbm=isch&tbnid=_Hx_1ginzPpG9M:&imgrefurl=http://www.01net.com/editorial/564564/vire-de-facebook-la-justice-s-en-mele/&docid=hcXhOOgX665mRM&imgurl=http://www.01net.com/images/article/673326.jpg&w=300&h=200&ei=dKBSUoXpAqip7Abmk4CoDQ&zoom=1&ved=1t:3588,r:72,s:200,i:220&iact=rc&page=14&tbnh=160&tbnw=240&ndsp=19&tx=139&ty=54.
[12]- Tribunal de Grande Instance de Paris, Ordonnance de référé du 14 avril 2008, Bénédicte S. / Google Inc., Google France.
[13]- Avis 5/2009 sur les réseaux sociaux en ligne adopté le 12 juin 2009.
[14] - http://www.google.com.lb/imgres?biw=1309&bih=704&tbm=isch&tbnid=itn8GDvVBbZJoM:&imgrefurl=http://www.courrierinternational.com/article/2013/02/21/facebook-au-tribunal&docid=E0ZYtbMXS0GypM&imgurl=http://www.courrierinternational.com/files/imagecache/article/illustrations/article/2013/02/1164/1164-AREND.jpg&w=485&h=336&ei=q55SUtalO8Ly7Aa5u4DwCg&zoom=1&ved=1t:3588,r:11,s:0,i:108&iact=rc&page=1&tbnh=186&tbnw=270&start=0&ndsp=14&tx=187&ty=39.
[15] - DE MONTECLER Marine, Le droit @ l'heure des réseaux sociaux, Mémoire pour Majeure Stratégie fiscale et juridique internationale, HEC Paris – 2011, Disponible sur le site: http://www.lepetitjuriste.fr/Documents/Download/M%C3%A9moires/droit%20@%20l%E2%80%99heure%20des%20r%C3%A9seaux%20sociaux%20-%20Marine%20de%20Montecler.pdf, P. 27.
[16]- Cass. Civ., 1e 16 avril 1985, Bull. n° 114.
[17]- Cass. Civ., 1e 14 janvier 1997 Gardon, Bull. n° 14 ; 11 mai 1999, Bull. n° 153.